جمعت الصفحات المهمة من مقدمة ابن خلدون التي يحلل فيها العرب بنظرته العلمية الفذه. 
كل ما وضعته , هو منسوخ من مقدمة ابن خلدون الجزء الاول.

 في ان العرب إذا تغلبوا على اوطان اسرع إليها الخراب


 والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش, وأسبابه فيهم, فصار لهم خلقا وجبلة, وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة.  وهذه الطبيعة منافية للعمران, ومناقضة له. فغاية الاحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب, وذلك مناقض للسكون الذي به العمران, ومناف له. فالحجر مثلا إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي القدر, فينقلونه من المباني ويخربونها عليه ويعدونه لذلك. والخشب أيضا إنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم ويتخذوا الاوتاد منه لبيوتهم فيخربون السقف عليه لذلك, فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران. هذا في حالهم على العموم.


 وأيضا فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس؛ وأن رزقهم في ظلال رماحهم , وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه, بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع, أو ماعون انتهبوه. فإذا ثم اقتدارهم على ذلك بالتغلب والملك بطلت السياسة في حفظ أموال الناس, وخرب العمران.


 وأيضا: فلانهم يكلفون على أهل الاعمال من الصنائع والحرف أعمالهم لا يرون لها قيمة ولا قسطا من الاجر والثمن. والاعمال كما سنذكره هي أصل المكاسب وحقيقتها؛ وإذا فسدت الاعمال وصارت مجانا ضعفت الآمال في المكاسب وانقبضت الايدي عن العمل وابذعر الساكن وفسد العمران.


 وأيضا فإنهم ليست لهم عناية بالاحكام وزجر الناس عن المفاسد ودفاع بعضهم عن بعض. إنما همهم ما يأخذونه من أموال الناس نهبا أو غرامة. فإذا توصلوا إلى ذلك وحصلوا عليه أعرضوا عما بعده من تسديد أحوالهم والنظر في مصالحهم وقهر بعضهم عن أغراض المفاسد. وربما فرضوا العقوبات في الاموال حرصا على تحصيل الفائدة والجباية والاستكثار منها كما هو شأنهم وذلك ليس بمغن في دفع المفاسد وزجر المتعرض لها بل يكون ذلك زائدا فيها لاستسهال الغرم في جانب حصول الغرض فتبقى الرعايا في ملكتهم كلنها فوضى (1) دون حكم والفوضى مهلكة للبشر مفسدة للعمران بما ذكرناه من أن وجود الملك خاصة طبيعية للانسان لا يستقيم وجودهم واجتماعهم إلا بها وتقدم ذلك أول الفصل.


 وأيضا فهم متنافسون في الرئاسة وقل أن يسلم أحد منهم الامر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الاقل وعلى كره من أجل الحياء. فيتعدد الحكام منهم والامراء وتختلف الايدي على الرعية في الجباية والاحكام فيفسد العمران وينتقض.


 قال الاعرابي الوافد على عبد الملك لما سأله عن الحجاج وأراد الثناء عليه عنده بحسن السياسة والعمران فقال تركته يظلم وحده.


وانظر إلى ما ملكوه وتغلبوا عليه من الاوطان من لدن الخليفة كيف تقوض عمرانه واقفر ساكنه وبدلت الارض فيه غير الارض فاليمن قرارهم خراب إلا قليلا من الامصار وعراق العرب كذلك قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع والشام لهذا العهد كذلك وأفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أول المائة الخامسة وتمرسوا بها لثلاثمائة وخمسين من السنين قد لحق بها وعادت بسائطه خرابا كلها بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمرانا تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمدر والله يرث الارض ومن عليها وهو خير الوارثين.
__________
ومما يعزى إلى سيدنا علي لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا (*)





 في ان العرب لا يحصل لهم الملك الا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو اثر عظيم من الدين على الجملة


 والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الامم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والانفة وبعد الهمة والمنافسة في الرئاسة فقلما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والانفة الوازع عن التحاسد والتنافس. فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بامر الله يذهب عنهم مذمومات الاخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لاظهار الحق تم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك. وهم مع ذلك أسرع الناس قبولا للحق والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذميم الاخلاق إلا ماكان من خلق التوحش القريب المعاناة المتهئ لقبول الخير ببقائه على الفطرة الاولى وبعده عما ينطبع في النفوس من قبيح العوائد
وسوء الملكات فإن كل مولود يولد على الفطرة كما ورد في الحديث وقد تقدم .


 في ان العرب ابعد الامم عن سياسة الملك


 والسبب في ذلك أنهم أكثر بداوة من سائر الامم وأبعد مجالا في القفر وأغنى عن حاجات التلول وحبوبها لاعتيادهم الشظف وخشونة العيش فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعض لايلافهم ذلك وللتوحش . ورئيسهم محتاج إليهم غالبا للعصبية التي بها المدافعة فكان مضطرا إلى إحسان ملكتهم وترك مراغمتهم لئلا يختل عليه شأن عصبيته فيكون فيها هلاكه وهلاكهم.
 وسياسة الملك والسلطان تقتضي أن يكون السائس وازعا بالقهر وإلا لم تستقم سياسته, وأيضا فإن من طبيعتهم كما قدمناه أخذ ما في أيدي الناس خاصة والتجافي عما سوى ذلك من الاحكام بينهم ودفاع بعضهم عن بعض فإذا ملكوا أمة من الامم جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بأخذ ما في أيديهم وتركوا ما سوى ذلك من الاحكام بينهم وربما جعلوا العقوبات على المفاسد في الاموال حرصا على تكثير الجبايات وتحصيل الفوائد فلا يكون ذلك وازعا وربما يكون باعثا بحسب الاغراض الباعثة على المفاسد واستهانة ما يعطي من ماله في جانب غرضه فتنمو المفاسد بذلك ويقع تخريب العمران فتبقى تلك الامة كأنها فوضى مستطيلة أيدي بعضها على بعض فلا يستقيم لها عمران وتخرب سريعا.


 شأن الفوضى كما قدمناه فبعدت طباع العرب لذلك كله عن سياسة الملك وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم وتبدلها بصبغة دينية تمحو ذلك منهم وتجعل الوازع لهم من أنفسهم وتحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض كما ذكرناه واعتبر ذلك بدولتهم في الملة لما شيد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة تو أحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرا وباطنا وتتابع فيها.

في ان اهل البدو اقرب إلى الخير من اهل الحضر


وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الاولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شر.
قال صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر ويصعب عليها اكتسابه. فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير وحصلت لها ملكته بعد عن الشر وصعب عليه طريقه وكذا صاحب الشر إذا سبقت إليه أيضا عوائده وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والاقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها وقد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك.
 حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم لا يصدهم عنه وازع الحشمة لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولا وعملا.


وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري لا في الترف ولا في شئ من أسباب الشهوات واللذات ودواعيها, فعوائدهم في معاملاتهم على نسبتها وما يحصل فيهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير فهم أقرب إلى الفطرة الاولى وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها ,فيسهل علاجهم عن علاج الحضر وهو ظاهر وقد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد ونهاية الشر والبعد عن الخير.


 فقد تبين أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر والله يحب المتقين ولا يعترض على ذلك بما ورد في صحيح البخاري من قول الحجاج لسلمة بن الاكوع وقد بلغه أنه خرج إلى سكنى البادية فقال له ارتددت على عقبيك تعربت فقال لا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو فأعلم أن الهجرة افترضت أول الاسلام على أهل مكة ليكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث حل من المواطن ينصرونه ويظاهرونه على أمره ويحرسونه , ولم تكن واجبة على الاعراب اهل البادية لان أهل مكة يمسهم من عصبية النبي صلى الله عليه وسلم في المظاهرة والحراسة ما لا يمس غيرهم من بادية الاعراب .


وقد كان المهاجرون يستعيذون بالله من التعرب وهو سكنى البادية حيث لا تجب الهجرة وقال صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص عند مرضه بمكة اللهم أمض لاصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم ومعناه أن يوفقهم لملازمة المدينة وعدم التحول عنها فلا يرجعوا عن هجرتهم التي ابتدأوا بها وهو من باب الرجوع على العقب في السعي إلى وجه من الوجوه وقيل أن ذلك كان خاصا بما قبل الفتح حين كانت الحاحة داعية إلى الهجرة لقلة المسلمين وأما بعد الفتح وحين كثر المسلمون واعتزوا وتكفل الله لنبيه بالعصمة من الناس فإن الهجرة ساقطة حينئذ لقوله صلى الله عليه وسلم لاهجرة بعد الفتح وقيل سقط إنشاؤها عمن يسلم بعد الفتح وقيل سقط وجوبها عمن أسلم وهاجر قبل الفتح والكل مجمعون على أنها بعد الوفاة ساقطة لان الصحابة افترقوا من يومئذ في الآفاق وانتشروا ولم يبق إلا فضل السكنى بالمدينة وهو هجرة فقول الحجاج لسلمة حين سكن البادية ارتددت على عقبيك تعربت نعى عليه في ترك السكنى بالمدينة بالاشارة إلى الدعاء المأثور الذي قدمناه وهو قوله لا تردهم على أعقابهم وقوله تعربت إشارة إلى أنه صار من الاعراب الذين لا يهاجرون وأجاب سلمة بإنكار ما ألزمه من الامرين وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في البدو ويكون ذلك خاصا به كشهادة خزيمة وعناق أبي بردة أو يكون الحجاج إنما نعى عليه ترك السكنى بالمدينة فقط لعلمه بسقوط الهجرة بعد الوفاة وأجابه سلمة بأن اغتنامه لاذن النبي صلى الله عليه وسلم أولى وأفضل فما آثره به واختصه إلا لمعنى علمه فيه وعلى كل تقدير فليس دليلا على مذمة البدو الذي عبر عنه بالتعرب لان مشروعية الهجرة إنما كانت كما علمت لمظاهرة النبي صلى الله عليه وسلم وحراسته لا لمذمة البدو فليس في النعي على ترك هذا الواجب دليل على مذمة التعرب والله سبحانه أعلم وبه التوفيق.


 في ان اهل البدو اقرب إلى الشجاعة من اهل الحضر


والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة وانغمسو في النعيم والترف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم واستناموا إلى الاسوار التي تحوطهم والحرز الذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيعة ولا ينفر لهم صيد فهم غارون آمنون قد ألقوا السلاح وتوالت على ذلك منهم الاجيال وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم حتى صار ذلك خلقا يتنزل منزلة الطبيعة.


 وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع وتوحشهم في الضواحي وبعدهم عن الحامية وانتباذهم عن الاسوار والابواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم ولا يثقون فيها بغيرهم فهم دائما يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب في الطرق ويتجافون عن الهجوع إلا غرارا في المجالس وعلى الرحال وفوق الاقتاب ويتوجسون للنبآت والهيعات ويتفردون في القفر والبيداء مدلين ببأسهم واثقين بأنفسهم قد صار لهم البأس خلقا والشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ.


 وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون معهم شيئا من أمر أنفسهم وذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة النواحي والجهات وموارد المياه ومشارع السبل وسبب ذلك ما شرحناه وأصله أن الانسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه فالذي ألفه في الاحوال حتى صار خلقا وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة واعتبر ذلك في الآدميين تجده كثيرا صحيحا والله يخلق ما يشاء.


رستم و بداية الاسلام عند العرب


الخلفاء عظم حنيئذ ملكهم وقوي سلطانهم كان رستم إذا رأى المسلمين يجتمعون للصلاة يقول أكل عمر كبدي يعلم الكلاب الآداب ثم إنهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين فنسوا السياسة ورجعوا إلى قفرهم وجهلوا شأن عصبيتهم مع أهل الدولة ببعدهم عن الانقياد وإعطاء النصفة فتوحشوا كما كانوا ولم يبق لهم من اسم الملك إلا أنهم من جنس الخلفاء ومن جيلهم ولما ذهب أمر الخلافة وامحي رسمها انقطع الامر جملة من أيديهم وغلب عليهم العجم دونهم وأقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون الملك ولا سياسته بل قد يجهل الكثير منهم أنهم قد كان لهم ملك في القديم وما كان في القديم لاحد من الامم في الخليقة ما كان لاجيالهم من الملك ودول عاد وثمود والعمالقة وحمير والتبابعة شاهدة بذلك ثم دولة مضر في الاسلام بني امية وبني العباس لكن بعد عهدهم بالسياسة لما نسوا الدين فرجعوا إلى أصلهم من البداوة وقد يحصل لهم في بعض الاحيان غلب على الدول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد فلا يكون ماله وغايته إلا تخويب ما يستولون عليه من العمران كما قدمناه والله يؤتي ملكه من يشاء


By alkrsan

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *